دخلت العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وإيران منعطفًا جديداً بعد إصرار إيران على تهديد الملاحة الدولية واختطاف عدد من السفن العابرة في مضيق هرمز وذلك بعد إجراءات تصعيدية من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تقضي بمنع طهران من تصدير نفطها ضمن سياسة العقوبات الأميركية المتصاعدة ضد طهران.
وعلى الرغم من إرهاصات الحرب الاعلامية القوية بين الإدارتين في واشنطن وطهران في الأيام الأخيرة إلا أنها لم تتعد حدود المزايدات السياسية، حتى وإن حركت أميركا بوارجها الحربية في المياه الإقليمية فقط للتلويح والتهديد بالحرب، إضافة لذلك فرضت الادارة الأميركية عقوبات على كل من المرشد الأعلى على خامينئي ووزير الخارجية جواد ظريف.
حصار إيران
ربما يرى البعض أن تلك الاجراءات غير مجدية لطهران لكن الحصار الاقتصادي بمنع إيران من تصدير نفطها ومنع الدول والشركات من شراء النفط الإيراني هو ثنايا التصعيد المؤلم وبخاصة بعد الاتفاق بين واشنطن و الرياض لرفع إنتاج النفط بما يعادل مليوني برميل يومياً لتغطية النقص المتوقع في أسواق النفط العالمية.
الجمهورية الإيرانية اعتبرت تصدير النفط بالنسبة اليها مسألة حياة أو موت وأنها بمثابة حرب اقتصادية عليها باعتبار أن إيرادات تصدير النفط هي أهم موارد الموازنة العامة، لذلك لجأت الى القرصنة عبر الخليج العربي ومضيق هرمز من ناحية، والإيعاز لمليشيات حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن بالتصعيد الميداني من ناحية أخرى.
وفي السياق نفسه انتقلت المواجهة بين طهران وواشنطن الى حلفاء الولايات المتحدة السعودية والامارات بعد استهداف ناقلات النفط في الخليج العربي وتحديداً ميناء الفجيرة الاماراتي واستهداف اخر في خليج عمان بعد قرابة الشهر من الاستهداف الأول وهذه ليست صدفة بالنظر الى حجم الاحتقان التاريخي بين الرياض من جهة وطهران من جهة أخرى.
حرب الناقلات
تطورت الأحداث سريعاً بعد احتجاز بريطانيا ناقلة نفط إيرانية في مضيق جبل طارق واعتبرت لندن أن الناقلة المحتجزة تخرق قرار مجلس الأمن وأنها كانت تنقل النفط لسوريا الخاضعة لعقوبات غربية.
لم يتأخر الرد الإيراني كثيراً حيث قام الحرس الثوري باختطاف ناقلة نفط بريطانية اثناء عبورها مضيق هرمز وادعى أنها تخرق قوانين الملاحة الدولية بحسب ما أفادت به السلطات في طهران وهو ما اضطر بريطانيا لارسال بوارج عسكرية لحماية ناقلاتها في خليج هرمز وهو ما بات يعرف بحرب ناقلات النفط.
وعلى رغم تصريحات وزيري خارجية طهران ولندن “جواد ظريف و جيرمي هانت” بعدم نية بلديهما التصعيد والدخول في مواجهة عسكرية، الا أن أداء الطرفين مختلف تماماً عن التصريحات الاعلامية، و بخاصة مع إرسال بريطانيا بارجة عسكرية ثالثة إلى مياه الخليج.
وقد ازدادت حالة الارتباك الأميركي مع إعلان ترمب إلغاء ضربة عسكرية لمقرات الحرس الثوري قبل تنفيذها بعشر دقائق، خوفاً من أن تكون حرباً طويلة الأمد، ولأن التشنج الأميركي الايراني لم يعد وليد اللحظة فلم تنس الادارات الاميركية المتعاقبة مسؤولية طهران عن تدمير مقر المارينز الأميركي في بيروت عام 1982، وقبلها رهائن السفارة الأميركية بطهران وتفجير الخبر بالمملكة العربية السعودية عام 1996، وتسليح الميليشيات الشيعية في أغلب الدول العربية خاصة الحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن أو حزب الله في لبنان.
بدأ هذا الاضطراب في العلاقة مع إرهاصات الثورة الخمينية عام 1979 مروراً بالادارات الاميركية المختلفة و انتهاءً بإدارة الرئيس أوباما التي أبرمت الاتفاق النووي (5+ 1) فقد كانت أولوية إدارة أوباما الانسحاب من العراق لتحقيق وعدٍ انتخابيّ أطلقه لإعادة تموضعٍ ستراتيجي على مستوى المنطقة والعالم وباعتبارها كانت غير راغبة في القيام بمغامراتٍ عسكرية جديدة نتيجة الصعوبات الاقتصادية والتعقيدات الجيوسياسية للمشهد السوريّ.
اتبعت إدارة أوباما منذ البداية سياسة التصعيد المضبوط والنفس الطويل الهادفة إلى استنزاف النظام السوري اقتصاديا وسياسيًّا وإنهاكه عسكريا وأمنيا والدخول في مفاوضات عسيرة و شاقة مع الجانب الايراني أسفرت عن الاتفاق النووي الشهير ( 5+ 1)، وسرعان ما اختلطت جميع الاوراق بعد انسحاب إدارة ترمب من هذا الاتفاق الذي منح الدولة الاسلامية ما يزيد عن 100 مليار دولار كمرحلة أولى من الاتفاق.
ربما يرى البعض تناقض ستراتيجية الولايات المتحدة المعلنة عن ممارساتها الفعلية في الشرق الأوسط، فعلى مدار أكثر من نصف قرن مضى، روجت واشنطن علنًا عن مكافحة الشيوعية، كما دافعت عن حقوق الإنسان والتحرر والسلام والحرية والديمقراطية، ومن جهة نرى أن الولايات المتحدة تورطت في انقلابات على قادة وطنيين منتخبين، وساعدت أنظمة ديكتاتورية قمعية، كما ساندت انقلابات عسكرية، وقامت بشن حروبٍ وعمليات عسكرية غير مباشرة وغير شرعية سراً في منطقة الشرق الأوسط، فما لبثت دول المنطقة أن تحررت من الاحتلال والاستعمار التقليدي، إلا وابتليت بالاستعمار الأميركي بصورته الجديدة وتدخلها الستراتيجي في كل تفاصيل المنطقة، وقد بلغ منتهاه في حروب الخليج الأولى 1991 والثانية 2003، بالشكل العسكري الكامل.
الموقف الأوروبي
التوتر المتصاعد في العلاقات الأوروبية – الأميركية ظهر جلياً في مؤتمر الدول الصناعية السبع المنعقد في باريس فقد سيطرت الأزمة الايرانية على أغلب اجتماعات المؤتمر، ولاسيما بعد أن فاجأ حضور جواد ظريف وزير خارجية إيران الجميع.
وقد اتسم موقف دول الاتحاد الاوروبي بالضبابية والغموض، فمازالوا في حيرة بين الحليف الأميركي وإيران، فهم مع تمكين إيران من تصدير نفطها وتعويضها عن الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي وهم أيضاً ضد انسحاب طهران من هذا الاتفاق، أي أنهم يحاولون إقناع الجمهورية الاسلامية بالاستمرار في الاتفاق النووي بين إيران وبين الدول الخمس الأخرى الموقعة عليه رغم الانسحاب الأميركي منه.
فدول الاتحاد الأوروبي بدأت تعي جيداً أن البيت الأبيض، في ظل إدارة دونالد ترامب لا يعطي اعتباراً لمصالح حلفائه الاوربيين، وأن المصالح الأميركية تعلو فوق كل اعتبار، لكن هل يمكن أن تدخل القارة العجوز في أزمة مع واشنطن بسبب الجمهورية الاسلامية وبوضوح أكثر بدافع من الحرص على مصالحها الخاصة مع إيران؟
إيران وسياسة التمدد
اعتمدت ستراتجية طهران في التوسع وتحقيق حلم استعادة الامبراطورية الفارسية على الجغرافيا السياسية من ناحية ومن ناحية أخرى تصدير ثورتها عبر أذرعها الشيعية فى العالم العربي ( الحشد الشعبى الشيعى فى العراق، وحزب الله في لبنان، والحوثيون فى اليمن)، إضافة لذلك التمسك بإرث قائدها آية الله الخمينى والترويج لمعاداة أمريكا والغرب إضافة لتأجيج المشاعر في البلدان العربية بالتركيز على الصراع المذهبي بين السنة والشيعة الذي تسعى طهران من خلاله لاستعادة مجد الإمبراطورية المفقودة.
لم يكن سقوط بغداد في نيسان 2003 يتم لولا دعم الاستخبارات الايرانية و الميليشيات التابعة له ولم يكن منعزلا عن التداعيات التي خلّفها قيام النظام العالمي الجديد عام 1991، تلك التداعيات التي سهلت لواشنطن غزو كل من أفغانستان والعراق واحتلالهما في ظل غياب القانون الدولي وتبدل موازين النظام العالمي، إذ تبلور نجاحها في فرض تواجدها العسكري في منطقة الشرق الأوسط، إثر انتهاء عمليات حرب الخليج الثانية في عام 1991 بحجة المحافظة على أمن واستقرار المنطقة في ظل محدودية دور الأمم المتحدة وتراجع دور بقية دول العالم الكبرى ثم أصبح المناخ مهيئًا للولايات المتحدة الأميركية لاختراق الدول العربية وغيرها بالاعتماد على استراتيجيتها في الشرق الأوسط.
إيران والأزمة السورية
بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 ارتبطت طهران ودمشق بعلاقات ستراتيجية على مدار أربعة عقود دشن نظام الأسد خلالها الجسر الذي تعبر منه إيران إلى العواصم العربية مثل بيروت وبغداد وفلسطين، وتدعم بعض الفصائل الموالية لها لتحقيق أهدافها في تصدير الثورة الإسلامية وتحقيق حلم قيادة العالم الإسلامي، وبالتالي شكل الحفاظ على نظام الأسد أهم ركائز طهران، في تحقيق استراتيجيتها والتمدد داخل العالم العربي.
واعتبرت إيران محاولة إسقاط النظام مؤامرة أميركية – خليجية هدفها الأساسي إضعاف دور طهران الإقليمي، وهو ما سيمنع تحقيق حلم الإمبراطورية الفارسية، لذلك تواصل الدعم الإيراني على مدار ثماني سنوات برغم الخسائر الفادحة وبرغم ما تتكبده طهران من تداعيات سلبية بسبب التمسك بنظام الأسد، وما يترافق مع ذلك من دعم مالي، وتزويد بالسلاح، ثم تطور هذا الدعم بإشراك عناصر الحرس الثوري الإيراني وحزب الله في عمليات القتال، و أخيراً تم الاتفاق بين تل أبيب وموسكو على تقليص دور الحرس الثوري وحزب الله داخل الأراضي السورية.
هذا التأرجح في العلاقات الايرانية- الأمريكية بين التلويح بالحرب تارة و الاستعداد للمفاوضات تارة أخرى يخدم مصالح تل أبيب في المقام الأول وهي تنتظر أي ذريعة أو هفوة من حزب الله في لبنان للانقضاض على مفاصل الدولة اللبنانية وفي ذات السياق أصبحت إيران أمام اختبار صعب ودقيق في مواجهة أغلب دول العالم، فهل ستنجح إستراتجية طهران في جر واشنطن الى مفاوضات مباشرة فيما يعرف بالعسل المر أو العشق الممنوع وهو المرفوض عربياً بعد أن تحولت من ستراتيجية الدفاع الى ستراتيجية الهجوم والتحدي وهل يصمد الاقتصاد الايراني أمام كل تلك الضغوط ؟؟